أثبتت الأيام القليلة الماضية بما لا يدع مجالاً للشك ولا فرصةً للظن، أن العدو الإسرائيلي يخشى الأقوياء ويخاف منهم، ويحسب حساباً للجادين في تهديداتهم، والصادقين في وعودهم، والمستقلين في قرارهم، والأحرار في سياستهم، الذين يقولون ويفعلون، ويعدون ويوفون، ويتعهدون وينفذون، الذين لا يغامرون بمكانتهم، ولا يقامرون بسمعتهم، ولا يترددون في مواقفهم، ولا يجبنون في مواجهتهم، ولا يهربون عند منازلتهم، إذ يحرصون على الوفاء بكلمتهم، والصدق مع أهلهم، ويحفظون كرامة شعبهم وسيادة بلادهم وعزة أمتهم.
إنها المقاومة الصادقة الوعد، الأمينة على العهد، التي تحمل البندقية، وتملك قرار الضغط على زنادها، وتحوز على القوة وتعمل على تطويرها، وتواصل تحديثها وامتلاك الجديد والمزيد منها، لأنها تؤمن أن معركتها مع العدو هي معركة يقينٍ وإرادة، لكن يلزمها السلاح والعتاد، والقدرة والإمكانية، والاستعداد والتدريب، فأعدت لهذا اليوم عدته، وتهيأت له بما تستطيع، وأعلنت جديتها وجهوزيتها، واستعدادها التام في سبيل النصر واستعادة الحقوق إلى التضحية والفداء، والبذل والعطاء.
الجبهتان الجنوبية والشمالية ترسمان بريشة المقاومة صورة العدو، وتجسمان حقيقته المهزوزة، وتعرضان طبيعته المكسروة، وتنبئان كل عينٍ ثاقبةٍ وأذنٍ صاغيةٍ أن المقاومة قد استعلت، وأن رجالها قد سموا، وأن سلاحها هو الأمضى، وأن كلمتها هي الأعلى.
فقد عَجَّت الجبهة الجنوبية بالدبابات والآليات العسكرية، واستدعى العدو جنوده وألغى احتياطه، وأخذت طائراته العسكرية المسيرة والمروحية تجوب في سماء المنطقة، تصور وتراقب، وتدقق وتتابع، وتسابق الزمن قبل تمكن المقاومة من تنفيذ تهديداتها، والوفاء بتعهداتها، إذ أنه يخشى من قدرة سلاحها، ولا يدرك كنه مخزونها، ولا حقيقة أسرارها أو قوة مفاجئآتها، ولكنه على يقينٍ أن ما تمتلكه المقاومة بعد حروبه الأربعة السابقة عليها كبيرٌ ومختلفٌ، وقد يكون نوعياً وفتاكاً، ولهذا فهو يحذر ويترقب، إذ لا يريد الخسارة ولا يقوى على الهزيمة، ويخشى من فرار مستوطنيه وإنهيار مواليه.
أما الجبهة الشمالية فهي أكثر رعباً وأشد فزعاً، وهي أعظم على العدو خطراً ، فقد أدخلت المقاومة التي هي أصدق مع العدو وعداً، سكان مستوطناته الشمالية إلى بيوتهم، وأسكنتهم ملاجئهم، وعطلت حياتهم، وجمدت الدماء في عروقهم، وألقت في قلوبهم اليأس والوهن، بينما غاب جنودهم واختفى قادة جيشهم، وخلت الثكنات والمعسكرات منهم، وتوقفت شاحناتهم وتعطلت آلياتهم العسكرية، فلا دوريات ولا عربات، ولا أبراج مراقبة ولا محطات متابعة، إذ توارى الجنود خلف التحصينات خوفاً، فلم يعد يراهم أحدٌ، بعد وعد المقاومة بالثأر منهم والقصاص من قيادتهم، وقد حذرتهم المقاومة ونبهتهم إلى مصيرهم المحتوم على أيدي رجالها، الذين وعدوا بالرد على الخرق والثأر للدم.
يدرك العدو الإسرائيلي هذه المرة صدق خصومه، وجدية أعدائه، وجاهزية مقاومتهم، وعمق حاضنتهم، وأمل شعبهم، وولاء أهلهم، وقد خبر قدرتهم، وعرف قوتهم، وذاق بأسهم، وتجرع مرهم، وتعلم من صدقهم، فأيقن أن هزيمتهم صعبة، والقضاء عليهم مستحيل، وأن الحرب معهم مكلفة، والقتال ضدهم موجع، وأنه سيخسر في حالم مواجهتهم الكثير مما كسب، وسيتراجع عن الكثير مما حقق، وسيكون مضطراً للتنازل والتراجع، والانكسار أو الإنكفاء، فزمن تفوقه قد ولَّى، وانتصاراته القديمة باتت يتيمة ولن تكرر، وأيام ضعف المقاومة وخوفها قد انتهت، وبداية صفحات انتصاراتها قد بدأت، وهي انتصاراتٌ حقيقية، وومضاتٌ في التاريخ ضوئية، ستحفظها الأجيال وتتمسك بها الشعوب.
العدو لا يخشى الضعفاء، ولا يحسب حساباً للأذلاء، الذين يرتضون الخسف ويقبلون بالهوان، إذ لا يقيم على الخسف يراد به إلا الأذلان عيرُ الحيِ والوتدُ، وقد اعتاد كثيراً على ربط العير حيث يريد، وضرب الوتد عندما يريد، بعد أن علم يقيناً بأنهم يحبون ذلك ويرضون به، ولا يثورون عليه ولا يغضبون منه، ولا يفكرون بقتاله ولا يحلمون بهزيمته والانتصار عليه، فسهلت مهمته، وأمنت رعيته، واطمأن شعبه، وتفوق جيشه، وقويت به شوكته، واستعصت هزيمته، إلى أن جاء من انتفض عليه ورفض الخضوع له، وهب في وجهه وصمد في مواجهته، فعرف أنها الخاتمة قد أذنت، وأنها النهاية قد اقتربت.
بيروت في 1/9/2019